فصل: تفسير الآية رقم (93):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير آيات الأحكام



.تفسير الآية رقم (93):

قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93)}.
يقول الله تعالى: ومن يقتل مؤمنا عامدا فجزاؤه على قتله عذاب جهنّم باقيا فيها، وغضب الله عليه لما ارتكبه من هذا الجرم الفظيع، وأخزاه وأعدّ له عذابا عظيما.
بعد أن ذكر الله حكم من قتل المسلم خطأ، ذكر هنا حكم من قتله عامدا، واقتصر على ذكر عقوبته في الأخرى، لأنّه ذكر عقوبته في الدنيا وهي القصاص في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى} [البقرة: 178].
وقد استدلّ المعتزلة بهذه الآية على القطع بعذاب الفسّاق، وخلودهم في النار، إن لم يتوبوا، وقد أجاب العلماء عن ذلك بأجوبة شتّى. منها أنّ هذه الآية نزلت في كافر قتل مسلما، ويرد عليه أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأيضا قد ثبت في الأصول أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب له يدلّ على كون ذلك الوصف علة لذلك الحكم، وبذلك علمنا من قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما} [المائدة: 38] إن السرقة علة القطع.
ومنها أنّ هذا وعيد بأنه سيفعل ذلك في المستقبل، والخلف في الوعيد كرم، وهذا مردود، لأنّ الوعيد قسم من الخبر، فإذا جوّز على الله الخلف فيه، فقد جوّز عليه الكذب، وهو باطل.
ومنها أن هذه الآية دلّت على أن جزاء القاتل هو ما ذكر، وليس فيها ما يدلّ على أنه سيوصل هذا الجزاء إليه، وهذا مثل ما يقول السيد لعبده، جزاؤك أن أفعل بك كذا وكذا، ولكن لا أفعله. وهذا ضعيف أيضا، لأنّ الله ذكر في هذه الآية أنّ جزاءه ما ذكر، وذكر في آيات أخرى أنه سيوصل جزاء عاملي السوء إليهم، قال: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] وقال: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 8].
واختار الرازي في الجواب أنّ هذه الآية قد خصّصت في موضعين:
أحدهما: القتل العمد، إذا لم يكن عدوانا، كقتل القصاص.
والثاني: القتل الذي تاب عنه القتل وإذا دخلها التخصيص في هاتين المسألتين فنحن نخصّص هذا العموم فيما إذا حصل العفو بدليل قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ} [النساء: 48].
وقد ذهب ابن عباس إلى أنّ المؤمن إذا قتل مؤمنا متعمدا لا تقبل له توبة.
أخرج ابن جرير عن سالم قال: كنت جالسا مع ابن عباس، فسأله رجل فقال: أرأيت رجلا قتل مؤمنا متعمدا أين منزله؟
قال: جهنم خالدا فيها، وغضب الله عليه، ولعنه، وأعدّ له عذابا عظيما.
قال: أفرأيت إن هو تاب، وآمن، وعمل صالحا، ثم اهتدى.
قال: وأنّى له الهدى ثكلته أمّه والذي نفسي بيده لسمعته يقول- يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم-: «يجيء يوم القيامة معلّقا رأسه بإحدى يديه، إما بيمينه أو بشماله، آخذا صاحبه بيده الأخرى تشخب أوداجه حيال عرش الرحمن، يقول: يا ربّ سل عبدك هذا علام قتلني».
فما جاء نبيّ بعد نبيكم، ولا نزل كتاب بعد كتابكم.
وقال جمهور العلماء: إنّ توبة القاتل تقبل، ويدل له أن الكفر أعظم من هذا القتل، والتوبة عن الكفر تقبل، فالتوبة عن القتل أولى بالقبول.
وأيضا آيات الفرقان تدل على قبول توبته، وهي قوله: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً} [الفرقان: 68- 70].
وأيا ما كان الأمر، فالآية تعدّ قتل المؤمن من الكبائر، وتهدّد القاتل بأنواع من التهديد والعقاب.
وقد ورد في الأحاديث من التغليظ في قتل المسلم ما هو قريب مما في الآية.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل امرئ مسلم».
وقال أيضا: «لو أنّ رجلا قتل بالمشرق، وآخر رضي بالمغرب لأشرك في دمه».
وقال أيضا: «إن هذا الإنسان بنيان الله، ملعون من هدم بنيانه».
وقال أيضا: «من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة، جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله».
فعلى من ينشد الحيطة لنفسه في آخرته، ألا يقتل مسلما، ولا يعين على قتل مسلم بشهادة باطلة ونحوها.

.تفسير الآية رقم (94):

قال الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94)}.
{ضَرَبْتُمْ} له معان منها السفر، وكأنه سمي به، لأنّ المسافر يضرب دابّته بعصاه ليصرفها كما يريد، ثم سمي به كلّ مسافر، أو لأنه يضرب برجليه الأرض في سيره.
{فَتَبَيَّنُوا} وقرئ فتثبتوا وهما من التفعل بمعنى الاستفعال، أي اطلبوا بيان الأمر وثباته، ولا تتعجلوا فيه من غير روية.
{السَّلامَ} وقرئ السلم وهما الاستسلام، وقيل الإسلام، وقيل التسليم أي تحية أهل السلام.
معنى الآية: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله إذا سرتم سيرا لله تعالى في جهاد الكفار، ورأيتم من تشكّون أهو سلم لكم أم حرب، فاطلبوا بيان أمره، ولا تعجّلوا بقتله، ولا تقولوا لمن استسلم لكم لست مؤمنا، أو لمن أظهر إليكم الإسلام لست مؤمنا، تبتغون متاع الحياة الدنيا، فإنّ عند الله مغانم كثيرة من رزقه ونعمته، فالتمسوها بطاعته، فهي خير لكم.
{كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} أي كهذا الذي كان مستخفيا بالإسلام من قومه- ولما وجدكم أظهر لكم دينه- كنتم من قبل مستخفين بدينكم من كفار قريش، فمنّ الله عليكم بإعزاز دينه، وتقوية شوكة الإسلام، فأظهرتم دينكم، فتبينوا أمر من أشكل عليكم أمره {إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً} ومنه تعجيلكم بقتل من لم يتبيّن لكم شأنه ابتغاء عرض الدنيا الزائل وحطامها الفاني.
وقال الزمخشري: {كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} أول ما دخلتم في الإسلام سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة، فحصنت دماءكم وأموالكم من غير انتظار الاطلاع على مواطأة قلوبكم لألسنتكم {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} بالاستقامة، والاشتهار بالإيمان، وإن صرتم أعلاما فعليكم أن تفعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل بكم، وأن تعتبروا ظاهر الإسلام في المكانة، ولا تقولوا: إن تهليل هذا لاتقاء القتل لا لصدق النية، فتجعلوه سلّما إلى استباحة دمه وماله، وقد حرمهما الله.

.سبب نزول هذه الآية:

قد اختلف فيه، ونحن نقتصر هنا على رواية واحدة: قيل: إنّ مرداس بن نهيك رجل من أهل فدك أسلم، ولم يسلم من قومه غيره، فغزتهم سرية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان عليها غالب بن فضالة الليثي، فهربوا، وبقي مرداس لثقته بإسلامه، فلما رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل، وصعد، فلما تلاحقوا وكبّروا، كبر ونزل، وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، السلام عليكم، فقتله أسامة بن زيد، واستاق غنمه، فأخبروا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فوجد وجدا شديدا، وقال: «قتلتموه إرادة ما معه» ثم قرأ الآية على أسامة، فقال: يا رسول الله استغفر لي، فقال: «فكيف بلا إله إلا الله» قال أسامة: فما زال يعيدها حتى وددت أن لم أكن أسلمت إلا يومئذ، ثم استغفر لي، وقال: أعتق رقبة.
ويؤخذ مما تقدم أنّ الكافر إذا قال: لا إله إلا الله، حرم قتله، لأنّه قد اعتصم بعصام الإسلام المانع من دمه وماله وأهله.
وقد قال الفقهاء: إذا قتله في هذه الحالة قتل به، وإنما لم يقتل أسامة لأنّه كان في صدر الإسلام، وتأوّل أنه قالها متعوّذا، وأنّ العاصم قولها مطمئنا.
وقد ورد الحديث الصحيح مبينا أنّ قول لا إله إلا الله عاصم كيفما كان، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله».

.تفسير الآية رقم (101):

قال الله تعالى: {وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101)}
الضرب في الأرض: السير فيها- قال الله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ} [المزمل: 20].
وقال: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} [النساء: 94].
القصر: من الشيء الحدّ منه وجعله أنقص مما كان، وهو بهذا المعنى في الصلاة يحتمل النقص من عددها، ويحتمل النقص من صفتها وهيئتها، فالأول أن تصير الرباعية ثنتين، والثاني التخفيف في هيئتها كأن تكون ذات ركوع وسجود، يمتنع المشيء فيها، فتصير ذات إيماء يباح الانتقال فيها، وكأن يصلي المأموم خلف الإمام الصلاة كاملة فيقتصر على جزء منها مع الإمام، ثم ينتظر حتى يجيء مأموم آخر فيصلي مع الإمام ما بقي من صلاة الإمام ثم ينصرف، ويتم كل من المأمومين صلاته منفردا، كلّ ذلك حطّ من الصلاة، ونقص لها، وتخفيف على فاعلها.
وقد اختلف العلماء في المراد بالقصر هنا، أهو القصر في عدد ركعات الصلاة أم هو القصر من هيئتها، والقائلون بأنّ القصر نقص عدد الركعات اختلفوا في المراد من الصلاة أهي صلاة المسافر أم هي الصلاة في حال الخوف من العدو، فعلى الأول يكون القصر للصلاة في السفر بالنظر لما كانت عليه في الحضر.
وذهب ابن عباس وجابر بن عبد الله إلى الثاني، قال ابن عباس: فرض الله صلاة الحضر أربعا وصلاة السفر ركعتين، وصلاة الخوف ركعة على لسان نبيكم، وهذا القول ليس بظاهر، لأنّ القرآن صريح في أن كيفية صلاة الخوف أن يقسم القوم أنفسهم طائفتين، يصلّي الإمام بطائفة منهما شيئا من الصلاة، ثم تأتي طائفة أخرى لم يصلّوا فيصلون مع الإمام، ونحن متفقون على أنّ المأموم عليه أن يؤدي مثل ما يؤدي الإمام، فما معنى قولهم: إن صلاة الخوف ركعة؟ إن أرادوا أنها ركعة بجماعة مع الإمام بالنظر لكل من الطائفتين فهو مسلم، ولا يثبت لهم ما قالوا من أنّ صلاة الخوف ركعة، وإن قالوا: إن كل طائفة ليس عليها إلا الذي صلت مع الإمام، فهو مخالف لما حكينا من الاتفاق على أن المأموم عليه أن يفعل مثل ما فعل الإمام، وقد دلّت كلّ الأخبار التي رويت في صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم لصلاة الخوف أنها ركعتان، يصلّي بكل طائفة ركعة، وعلى هذا يجب أن يحمل قول ابن عباس وجابر رضي الله تعالى عنهما أن صلاة الخوف ركعة، أنها ركعة لكل طائفة مع الإمام، وتقضي كل منهما ركعة دون الاقتصار على ركعة واحدة.
وقد استدلّ القائلون بأنّ القصر قصر عدد الركعات بما روي عن يعلى بن أمية أنه قال: قلت لعمر بن الخطاب: كيف تقصر وقد أمّنا، وقد قال الله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فقال عمر: عجبت مما عجبت منه، فسألت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: «صدقة تصدّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته».
وهذا يدلّ على أنّ المراد بالقصر في الآية القصر في عدد الركعات، لأنّ السائل فهم أنّ ذلك لا يكون إلا في الخوف، وقد فعل في الأمن فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «هو صدقة».
فدلّ على أنّ القصر الذي في الآية من جنس القصر الذي يكون في الأمن، وذلك نقص في الركعات دون الصفة، وأيضا فإنّ القصر أن تقتصر من الشيء على بعضه، والقصر في الصفة تغيير، لا إتيان بالبعض، لأنه جعل الإيماء بدل الركوع والسجود مثلا. وأيضا: فإنّ (من) في قوله: {مِنَ الصَّلاةِ} للتبعيض، وذلك في الاقتصار على بعض الركعات أظهر.
وأما دليل الذين قالوا: إنّ المراد بقصر الصلاة في الآية قصر الصفة والهيئة دون نقصان أعداد الركعات فهو أنّ الآية في صلاة السفر. أليس الله يقول: {وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} وقد روي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عمر قال: «صلاة السفر ركعتان، وصلاة الفطر والأضحى ركعتان، تمام غير قصر على لسان نبيكم عليه الصلاة والسلام» فقد أخبر أنّ صلاة السفر سواء أكانت صلاة أمن أم خوف تمام غير قصر.
فإذا معنى القصر في الآية قصر الصفة لا قصر عدد الركعات، وهم يحملون قول عمر: «عجبت مما عجبت منه» على أنه لعله كان قد ظن في بادئ الأمر أنّ القصر في صلاة الخوف قصر عدد الركعات، فلما سمع من النبي صلّى الله عليه وسلّم: «صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر».
علم أن القصر في الآية إنما هو في الصفة.
وقد اختلف الفقهاء في أنّ فرض المسافر في الظهر والعصر والعشاء أهو ثنتان، أم هو مخيّر بين القصر والإتمام، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: فرض المسافر ركعتان إلا في المغرب، فإنها ثلاث: فإن صلّى المسافر أربعا ولم يقعد على رأس الركعتين فسدت صلاته، وإن قعد بعدهما مقدار التشهد تمت صلاته مع الكراهية، لتركه السلام، بمنزلة من صلّى الفجر أربعا بتسليمة، وقال حماد بن سليمان: إذا صلّى أربعا أعاد.
وقال مالك: إذا صلّى المسافر أربعا أعاد ما دام في الوقت، فإذا مضى الوقت فلا إعادة عليه.
وقال الشافعي رضي الله عنه: القصر رخصة، فإن شاء قصر وإن شاء أتمّ. احتجّ الشافعي رحمه الله بأن ظاهر الآية نفي الجناح عنهم في القصر، وهذا اللفظ مشعر بأنّه رفع عنهم لزوم الإتمام من غير إلزام لهم بالقصر. وأيضا فقد روي عن عائشة أنها قالت: «قصر رسول الله وأتمّ».
وكان عثمان رضي الله عنه يتم ويقصر ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، وأيضا فقد جرى الشرع في رخص السفر على التخيير كالصوم والفطر فالقصر كذلك.
واحتجّ الحنفية بما روي عن عمر أنه قال: صلاة السفر تمام غير قصر على لسان نبيكم، وبأن النبي صلّى الله عليه وسلّم التزم القصر في أسفاره كلها فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا خرج مسافرا صلّى ركعتين حتى يرجع.
وروي عن عمران بن حصين حججت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم فكان يصلي ركعتين حتى يرجع إلى المدينة، وقال لأهل مكة: «صلوا أربعا فإنّا قوم سفر».
وقال ابن عمر: صحبت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في السفر، فلم يزد على ركعتين، وصحبت أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم في السفر، فلم يزيدوا على ركعتين، حتى قبضهم الله، وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] وقال: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158].
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «صلوا كما رأيتموني أصلي».
وقد كانت صلاته في السفر ركعتين فوجب اتباعه، وذلك لأننا متفقون على أن لفظ الصلاة في القرآن مجمل يلتحق به البيان، والبيان فعل الرّسول أو قوله، وهذا فعله، وهذا قوله.
وأيضا لو كان مراد الله التخيير بين القصر والإتمام لبيّن ذلك كما بينه في الصوم، وأما ما ورد عن عثمان فقد اعتذر عنه بأنه قد تأهّل، فإنّه حين أتم بمنى أنكر عليه الصحابة، قال: إنما أتممت لأني تأهلت بهذا البلد، وقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من تأهّل ببلد فهو من أهله».
وقد قالت عائشة فيما روي عنها: أول ما فرضت الصلاة وأتمّ فيحمله الحنفية على قصر الفعل، وإتمام الحكم جمعا بين الروايات. وأما ظاهر قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ} فهم يتأوّلون القصر على قصر الصفة.
وقد ذكر صاحب الكشاف وجها آخر في قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ} فقال: إنهم لما ألفوا الإتمام فربما خطر ببالهم أنهم نقصوا في قصر الصلاة، فنفي الجناح من أجل ذلك.
وظاهر تعليق القصر على الضرب في الأرض يدلّ على القصر في مطلق السفر، سواء في ذلك السفر للحج والجهاد والتجارة وغيرها، وأيضا قوله: «صلاة السفر ركعتان» يدل على ذلك.
وقد روي عن عبد الله بن مسعود قال: «لا تقصر إلا في حج أو جهاد».
وعن عطاء قال: لا أرى أن يقصر الصلاة إلا من كان في سبيل الله.
لكن هذا مخالف لظاهر الآية، ولا تمسك لهم بما روي أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يقصر إلا في حج أو جهاد، فإنما ذلك لأنّه لم يسافر إلا في حج أو جهاد.
وقد تمسك داود الظاهري بهذا الظاهر، وقال: إن قليل السفر وكثيره سواء في جواز القصر، فالمدار في تحقيق القصر عندهم على تحقق شرطه، وهو الضرب في الأرض.
وأما الجمهور فقد قالوا: إنّ الضرب في الأرض حقيقته الانتقال من مكان إلى مكان. وظاهر أنّ مجرد الانتقال من مكان إلى مكان لا يكون سببا في الرخصة، فلابدّ أن يكون الضرب المرخّص ضربا مخصوصا، ولما كان ذلك لا يعرف إلا ببيان السنة لمقدار الانتقال المرخّص، ولم يرد في بيان السنة ترخيص في القصر في أقل من سفر يوم، وذلك أنه حصل في المسألة روايات:
1- روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: يقصر في يوم تامّ، وبه قال الزهري والأوزاعي.
2- قال ابن عباس: إذا زاد على يوم وليلة قصر.
3- قال أنس بن مالك: المعتبر خمسة فراسخ.
4- قال الحسن: مسيرة ليلتين.
5- قال الشعبيّ والنخعيّ وسعيد بن جبير: من الكوفة إلى المدائن، وهي مسيرة ثلاثة أيام، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وعنهم: يومان وأكثر الثالث.
6- قال مالك والشافعي: أربعة برد، كل بريد أربعة فراسخ.
فهذه الأقوال على ما بينها من الاختلاف تدلّ على إجماعهم على أنّ السفر المرخّص مقدّر بقدر مخصوص هو الذي فيه الاختلاف.
وقد عول الحنفية في مذهبهم على قوله عليه الصلاة والسلام: «يمسح المقيم يوما وليلة، والمسافر ثلاثة أيام، وعلى ما ورد في منع المرأة من السفر فوق ثلاث إلا مع زوج أو محرم».
فدلّ هذا على أنّ ما دون الثلاث ليس سفرا، بل هو في حكم الإقامة، حيث جعل الثلاث فاصلا بين الخروج دون محرم وعدمه.
وأما الشافعية فإنهم عوّلوا في مذهبهم على ما روي عن مجاهد وعطاء عن ابن عباس أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد، من مكة إلى عسفان».
وقد تقدم الكلام على أدلة الحنفية والشافعية في الصوم، إنما الذي يعنينا الآن هو ما ذهب إليه الظاهرية، فنحن نقول لهم: إن الآية مجملة، وقد أجمع السلف على أن السفر مقدّر، وقد بينت السنة أنه مقدر على خلاف في الروايات مرجعه إلى الترجيح، فهو عند الترجيح يثبت أحد الأقوال في التقدير، وهو خلاف ما يدّعون.
وقد زعم الظاهرية أيضا أنّ القصر في السفر إنما يكون عند الخوف تمسكا بالشرط في قوله: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} إذ هو يفيد أن القصر إنما يحصل عند الخوف، فما لم يكن خوف لم يكن قصر، ولكنّا نقول: إنّ الآية لا تدل على أكثر من أنه عند الخوف يصح القصر، أما في حال عدم الخوف فهل يصح أم لا؟ ذلك ما لم تعرض له الآية، بل هي ساكتة عنه، وهذا السكوت عنه قد بينته السنة، وفائدة التقييد بالخوف في الآية بيان حال السفر الذي كانوا عليه وقتئذ إذ غالب أسفارهم إنما كان في حرب العدو، على أنّ لنا أن نقول إنّ القصر الذي في الآية هو قصر صفة في إحدى صلوات السفر، وهي الصّلاة في حال الخوف.
ثم ماذا يقول الظاهرية في قوله: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} هل يقولون: السفر المرخّص إنما يكون في حال الخوف من الكفار فقط وأما من العدو مطلقا فلا، ما نظنهم يقولون بالتزامه، إذ المعقول أن الذي يصلح أن يكون علة هو خوف الفتنة مطلقا، وحيث كان الأمر كذلك فهم محجوجون بما احتجوا به.
{إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي إن خفتم أن يتخذ أعداؤكم اشتغالكم بالصلاة وطولها فرصة لتغلّبهم عليكم فتفتنون وتغلبون. فلا تمكنوهم من هذا، بل اقصروا من الصلاة، ويصحّ أن يكون المراد إن خفتم أن يفتنكم الكافرون في حال الركوع والسجود حيث لا ترون حركاتهم فصلوا راجلين أو راكبين آمنين.
والفتنة: الشدة والمحنة والبلية.
{إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً} فهم يتربّصون بكم الدوائر ليوقعوا بكم، وتتمّ لهم الغلبة عليكم، وقد سهلت لكم الطريق في قتالهم، فلا تدعوا لهم فرصة لينفذوا منها إلى غرضهم، ولو كانت تلك الفرصة هي الصلاة التي لا تترك بحال، فقد جعلت لكم أن تقصروا منها.